-الطبيعة الأولى :
لنتخيل إنسانا عاريا أو شبه عار، في فجر الأزمنة الغابرة،- عندما كان يسترق السمع لكل ما يدب قرب كهفه و هو في غمرة تهذيب صخرة أو تسنين عظم، ليدفع به عن نفسه الوحوش الضارية التي تملأ الغابات المحاصرة لكهفه.
-بداية التفكير:
في الشتاء، عندما تستسلم الغابة لجنون الرياح العاتية و تنحني أشجارها العملاقة مرهقة تحت وطأة الثلوج المتكدسة على أغصانها العظيمة، لاشك حينها، أن ذلك الإنسان الأول غارق يفكر بعمق، كيف يسكت نداء الجوع أو كيف يرفع تحدي الخوف من تلك الوحوش السافرة أو حتى كيف يتخلص من نفخات ذلك البرد القارص.
في الصيف عندما تطفح الغابة بكل أنواع الحياة و تتضاعف الوحوش و الحيات، لاشك حينها، أنه منثن يفكر بعمق و ربما بحزن دفين، كيف يتفادى لسعاتها القاتلة أو كيف يتوارى عن مواجهتها أو حتى، إذا أرغم، كيف ينقض عليها ليصرعها.
-الحاجة أم التفكير:
لا شك أن فؤاده، و هو في ذروة الحيرة، ينفجر أشلاء في ملاحقة أفكار ضائعة إذا أحس بوجع في الرأس أو بانتفاخ في الجلد أو بألم في البطن، لكنه لا ينتهي من التفكير.
أمام كل هذه الألغاز بإمكاننا تخيل الأحاسيس التي تتملكه بل و حتى سرعة نبضات قلبه تزيد بدورها من حجم تساؤلاته و لكنه يصمد، يقاوم و يعيش.
-اكتشاف الموت:
و لنتخيله الآن عندما يسقط زميله و ربما أبنه أو حبيبته، فينثني ثم يجلس فيقلبه، لكنه يأبى النهوض، يستلقي إلى جانبه ضائعا ينتظر استيقاضه، يطول الأمر فيحس برائحة كريهة، يتجاهلها لكنها تحتد، فيبتعد قليلا و لكنه ينتظر، تنقض على صاحبه ديدان صغيرة فتلتهمه، حينها و بأسى ينسحب ليخبر زملائه، بطريقة ما، بأنه مات، ثم ينصرف و لكن بسؤال جديد، ما الموت ؟
- اكتشاف الحياة:
و تتآكل السنون و القرون، فيتخلص من الجوع، من البرد، من الحرارة يهزم الوحوش و يتغلب على الحيات، ينظم نفسه، يتسلح، يكتشف العقاقير، يبني مأواه و يحصنه، و لكن اللغز الوحيد الذي عجز عن فهمه و بقي يحيره هو الموت، لقد كان بإمكانه أن يملك مصيره بين يديه لولا ظاهرة الموت.
- قتل الموت أو اكتشاف الثقافة:
تحت وطأة افتتانه بالحياة و تعلقه بها.
لقصر أيامه فوق هذا التراب.
لم يجد الإنسان إلا الثقافة ليرفع بها تحدي الموت.
بالثقافة استطاع الإنسان أن يحقق حلمه في الخلود و أن يمدد عمره إلى مالا نهاية.
إن الثقافة رفض للموت و رفض الثقافة هو الرضى بالموت.